كلنا هذا الرجل..وهذه المرأة ...وهذا الإنسان الضعيف... الخائف ..البائس ... الغريب فى دنيا غريبة ...المتلهف على أن يضع رأسه على صدر غيره . وأن يستمد الأمان والطمأنينة والسلام ممن يحب تماما كما يستشعر الطفل الامان
والاشباع فى صدر أمه .....وفى حضنها ، فإذا كنا نعرف هذه الحقيقة ....ولا نخجل منها فلماذا إذن نعامل بعضنا البعض بهذا الجفاء وهذة الغلظة مع اننا جميعا صغار يكسر قلوبنا الهشة أخف شىء
فى حوار بين المفكر الفرنسى أندرية مالرو ورجل دين أمضى 15 عاما يستمع إلى مشاكل الناس وهمومهم سأله
مالرو: ماذا تعلمت من اعترافات البشر؟
فأجاب : تعلمت أن الناس أتعس كثير مما نظن ! ولقد استشهد بهذا الحوار مرار فى التدليل على أن هموم البشر كثيرة
وأننا ينبغى ألا نحكم على الاخرين من مظاهرهم التى قد تبدو لاهيه ..أوقاسية أومتسلطة لأن الاقتراب منهم قد يكشف
لنا عن ماس تختفى وراء الأقنعة الظاهرة
وأنه ليس هناك أشخاص كبار ! نعم ليس هناك أشخاص كبار فعلا لأن الكل صغار أمام مشاكلهم وأمام الألم والوحدة وأفتقاد التقدير ،العطف والاطمئنان ، وأمام الخوف من المجهول ومن المرض وفقدان الرفيق والنصير ومن الموت ومن تساقط أوراق العمر ومن تهاوى ألأحبه والأعزاء واحد وراء الاخر حاملين له النذير باقتراب النهاية ..صغار أمام الهموم والاحزان حتى لكأنى أكاد أصدق فى بعض الأحيان رغم تفاؤلى الدائم ، ماقلته إحدى الشخصيات مالرو نفسه فى احد اعماله : ما الإنسان ؟ أنه ليس سوى كومة بائسة من الاسرار
فإن كان فى هذه الحقيقة شىء مفيد فهو أننا قد نتعلم منها أن نحسن الظن بقوة الاخريين وألا نقسو عليهم وألا نتمادى فى إيلامهم ...وأن نتلمس الطريق للتخفيف عنهم إذا أستطعنا ...لانهم مهما بدا لنا من ادعائهم للقوة فهم لا يستحقون منا إلا العطف ! فالعطف هو مايحتاجه الانسان دائما من أقرب الناس إليه حتى ولو لم يعرف ذلك ، والذين يقولون لك انهم لايريدون الشفقة من أحد أو يكرهون أن يعاملهم ألاخرون باشفاق ..فقط علينا ألا تكون الشفقة معهم أستعراضية
أو مظهرية لكيلا تستثير كوامن النقص فى الطبيعة البشرية
أما فيما عدا ذلك فالكل فى حاجة إلى عطفك .... وانت فى حاجة إلى عطف من حولك وأقرب الناس اليك لأنك أنسان ولأنك ضعيف مهما كانت لك من اسباب القوة والقدرة والتفوق
لقد روى الفنان شارلى شابلن فى مذكراته أنه دعا العبقرى البرت اينشتاين مع زوجته إلى العشاء فى بيته ، وكان أينشتاين من هواة العزف على الكمان ، فدعا شارلى أربعة من العازفين المحترفين ليعزفوا الموسيقى لضيوفه بعد العشاء وأحضر اينشتاين معه كمان ليشاركهم العزف وعزف معهم بالفعل لكن العازفين لم يتحمسوا لاشتراكه معهم
بسبب سوء عزفة ، وبعد عدة مقطوعات استأذنوه فى أن يعزفوا وحدهم لبعض الوقت لانه يفسد عليهم الايقاع فجلس إلى جوار زوجته وكانت سيدة بدينة عطوفا تعامله كابنها ولاتخفى فخرها بأنها قرينته وهو يتململ كالطفل ويسأل بصوت خافت متى يتاح له العزف مرة أخرى ، فتربت زوجته على يده بحنان وتشجيع وتقول له بصوت مسموع : ولايهمك ..لقد عزفت أفضل منهم جميعا ! وشابلن وضيوفه يرقبون المشهد ويعجبون لحاجة هذا العبقرى إلى لمسة تشجيع من زوجته تقنعه بانه يجيد العزف وبانها فخورة به لذلك ..لكن لاعجب فى ذلك لان الانسان مهما كان عبقريا أو قويا صغير يحتاج إلى ربته العطف على يده وإلى لمسة التشجيع من شريك حياته وحبذا لو أتيحت له من الجميع
ثم تأمل أيضا مارواه نقاد الفن من أن الفنان العظيم بيكاسو كان فى سنواته الأخيرة ينهض من نومه كل يوم ويشرب القهوة مع زوجته الاخيرة ..ثم ينفجر فجأة فى البكاء وهو يقول لها أنه يحس بأنه قد انتهى كفنان وأنه لن يستطيع
أن يرسم خطا واحدا فى لوحة جديدة ..فتأخذه على صدرها وتغمره بقبلاتها وتهدهده كالطفل وتؤكد له بعطف الأمهات أنه سوف يرسم أبدع مما رسم طوال حياته ... وانها واثقه من ذلك لانه فنان عظيم ... ولانها تحبه ولانه لايمكن أن يخيب ظنها فيهدأ قليلا ثم تسحبه برفق من يده لتجلسه أمام اللوحة وتضع الفرشاة أمامه وهى تشجعه بنظراتها التى تفيض حبا وحنانا على أن يبدأ فيبدأ مترددا ... وهى تحثه وتربت على رأسه وظهرة بيدها ... فلا تمضى دقائق حتى تنطلق الريشة فى يده وترسم أجمل لوحاته وأكثرها قيمة فنية ! ويتكرر نفس المشهد بنفس تفاصيلة بعد يومين او ثلاثه أيام على ألاكثر ويستمر حتى اليوم الأخير من حياته . فهل بيكاسو فى حاجة لشهادة زوجته بانه فنان عظيم لكى يعاود الرسم ! . لا طبعا وأنما كان فى حاجه إلى هذا ليستشعر العطف والحنان من شريكة حياته وليتخلص من قلق الفنان وهواجسه ومخاوفه كإنسان .. .ليواصل إبداعه ...وهكذا كل انسان ضعيف وصغير فى نظر نفسه مهما علا شأنه
ولا غرابه فكلنا فى حاجة للعطف لهذا قال الشاعر الالمانى جوته ( قلب الإنسان كبير جدا لايملاه شىء ..وهش جدا يكسره أخف شىء ) وقال الدكتور أرثر جيتنس أستاذ علم النفس التربوى أن الجنس البشرى كله يتلهف على العطف ! وانه لهذا السبب النفسى يسارع الطفل بأظهار مالحق به من أذى بل أنه قد يؤذى نفسه أحيانا لكى ينال عطف أمه وعطف الاخرين ...ويفعل شيئا شبيها بذلك الكبار حين يتحدثون عن وحدتهم ومتاعبهم والامهم النفسية والبدنيه وامراضهم .. وافتقادهم للتقدير .. فإن كان الامر كذلك ، فلماذا إذن نعامل بعضنا البعض بهذا الجفاء وهذه الغلظة مع
اننا جميعا صغار يكسر قلوبنا هشة أخف شىء
نعم كلنا نحتاج إلى عطف الاخريين واشفاقهم وإلى رتبة الحنان منهم على أكتافنا ....ولمسة التاييد على أيدينا ...خصوصا فى لحظات الضعف التى لاتخلو منها حياة كل البشر ...حتى الانبياء
تأمل مثلا حاجة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام إلى من يهدىء روعه حين نزل عليه الوحى لأول مرة فعاد إلى بيته مضطربا يقول ( زملونى ...زملونى ) فلازمته السيده خديجة بكل عطف زوجة المحبة حتى هدأ روعة فحدثها بما رأى وأفضى إليها بمخاوفه من أن تكون بصريته قد خدعته حين راى الملك الكريم الذى نزل إليه فى الغار ، فإذا بالسيدة الكريمة والزوجة العطوف لاتظهر له خوفا ولاريبه وتقول له والله لا يخزيك الله أبد ا..إنك لتصل الرحم . وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق
فيطمئن روع الرسول عليه الصلاة والسلام وينظر إلى شريكته نظرة شكر وموده
فقد كانت السيده خديجه الزوجة المحبه .. العطوف التى أحسنت عشرة زوجها الكريم حتى رحلت عنه راضية مرضية والتى كانت ملاك الرحمة الذى يهون عليه كل مالاقاه من عنت وكروب ، فلا عجب بعد ذلك أن يحزن عليها الرسول الكريم وان يسمى عام موتها عام الحزن وقد كان الرسول الكريم يذكر عنها انها امنت بيه حين كفر الناس به ، وانها صدقته إذا كذبه الناس ، وواسته بمالها إذ حرمه الناس
وكم هى جميلة ومعبرة وموحية بكثير من المعانى ... كلمة وواستنى ؟ وما الموساة إلا العطف والتاييد والبذل لشريك الحياة وهو ما يحتاجه كل انسان فمن لم يجدها عند شريكة حياته لم تطرق السعادة ولا راحة القلب أبواب حياته
وأحتياج المرأة إلى التدليل من شرك حياتها وإلى الاحساس بعطفه عليها وأعتزازه بها وتزايد حاجتها النفسية لذلك كلما تقدم بها العمر حقيقة مألوفة ولا تستوقف أحد لانها تتوافق مع طبيعتها وميولها الرومانسية وضعفها اللأنثوى ..لكن ماهو غير مألوف عند البعض هو أن يتصور مدى حاجة الرجل أيضا إلى هذا التدليل والعطف فى كل مراحل حياته ، وكيف أن هذه الحاجه تتزايد مع تقدمه فى العمر كأنما يعود طفلا من جديد . والذين أدركوا سر هذا الاحتياج المشترك بين الرجل والمرأة هم أسعد الازواج وهم هؤلاء الذين نراهم فى شيخوختهم أصحاء ، راضين عن أنفسهم وعن حياتهم
ونفوسهم خالية من المرارة ومن الام الوحدة الداخلية والاغتراب النفسى والاحساس بضياع العمر بغير أن تتاح لهم فرصة الاستمتاع بحياتهم أو ببعضها . ولان كل ذلك النعيم ....فلقد وعد الله المتقين بنعيم أكبر منه فى العالم ألاخر فوصفهم بقوله ( وعندهم قاصرات الطرف أتراب ) لان قصرات الطرف هن من قصرن أطرفهن أى عيونهن وقلوبهن واسماعهن على ازواجهن فلا يردن غيرهم ولايريد الرجال غيرهن ولاشك أن كلا منهم للأخر سلام النفس وسلوى الحياة وجائزتها فى الدنيا ........ونعيمها وسعادتها فى الاخرة
واخيرا ...كلنا هذا الرجل ...وهذه المرأة ... وهذا الانسان الضعيف ...الخائف ...البائس الغريب فى دنيا غريبة ...المتلهف على أن يضع رأسه على صدر غيره . وان يستمد الامان والطمائنينة والسلام ممن يحب تماما كما يستشعر الطفل الامان والإشباع فى صدر أمه ....وفى حضنها ، فإذا كنا كلنا نعرف هذه الحقيقة ...ولا نخجل منها ...فماذا تنتظر إذن ياأية أمرأة ويا أى رجل
من روائع الكاتب الكبير
والانسان بكل ماتحمله هذه الكلمة من معانى
ومثلى الاعلى فى الحياه
عبد الوهاب مطاوع رحمه الله
من كتاب أفتح قلبك
التلخيص والترتيب والكتابه فى صورة مقاله
نبضات